كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: الحق سبحانه يُنبّهنا دائمًا من هذه الغفلة بواسطة الرسل، ثم يترك سبحانه للرسالات التي سبقتْ أدلة تؤيد الرسل الموجودين، وتعينهم على أداء مهمتهم؛ لذلك يقول لنا: انظروا إلى الرسل الذين سبقوا، وكيف كانت عاقبة المكذّبين بهم.
{أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا من قَبْلهمْ مّنَ القرون} [السجدة: 26] كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعَادٍ إرَمَ ذَات العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مثْلُهَا في البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُوا الصخر بالواد وَفرْعَوْنَ ذى الأوتاد} [الفجر: 6-10].
فهذه الأهرامات التي يَفد إليها الناس، والتي تُعَدُّ مزارًا سياحيًا هي آية من آيات الله تقوم دليلًا على هلاك أصحابها من المكذّبين للرسل، فالحق سبحانه لم يترك لأحد من خَلْقه عذرًا بعد أنْ كشف له الآيات الكونية تشهد بوحدانيته تعالى وألوهيته، والمعجزات التي تثبت صدق الرسل في البلاغ عن ربه، ثم آيات الأحكام التي تحمل أقضية الحياة، والتي لا يمكن لبشر أنْ يستدرك عليها، والتي تحمل الحلَّ الشافي والدواء الناجع لكل داءات المجتمع.
وبعد ذلك تركت لهم تكذيب المكذّبين أمام أعينهم، كما قال سبحانه: {وَإنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهمْ مُّصْبحينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقلُونَ} [الصافات: 137-138].
فها هي آثار عاد وثمود وغيرهم ما تزال شاهدةً عليهم، بعضها فوق الأرض، ومعظمها مطمور تحت طبقات الثَّرى؛ لذلك نجد أن كل الآثار القديمة يجدونها في الحفريات تحت الأرض، ولم لا وقد كانت العاصفة تهبُّ الهبَّة الواحدة، فتبتلع القافلة بأكملها، فما بالك بهبَّات الرياح من أيام عاد حتى الآن. إذن: خذوا عبرة من مصير هؤلاء.
ومعنى {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} [السجدة: 26] يهدي: أي: يدلُّ ويرشد ويُبيّن ويُوضّح، والهداية لها عناصر ثلاثة: هاد ومهديٌّ والشيء المهْدَى إليه، ومادة: هدى تُستعمل في كتاب الله ثلاثة استعمالات:
الأول: أنْ يُذكر الهادي، وهو الله عز وجل، والثاني: أن يُذكر المهديّ وهم الخَلْق، والثالث: وهو أنْ يُذكر المهدي إليه، وهي الغاية التي يريدها الله.
وهذا الفعل يأتي مرة متعدّيًا بنفسه، كما في سورة الفاتحة: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] أي: يا الله، فالله هو الهادي، ونحن المهديون، والغاية هي الصراط المستقيم.
ومرة يُعدَّى الفعل باللام، كما في {الحمد للَّه الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] فلم يَقُلْ: هدانا هذا، ومرة يتعدى بإلى كما في {والله يَهْدي مَن يَشَاءُ إلى صرَاطٍ مُّسْتَقيمٍ} [البقرة: 213].
فتلحظ أن الهادي واحد وهو الله تعالى، والمهديّ هو الخَلْق، لكن المهْدَي إليه هو المختلف، أما في هذه الآية فالأمر مختلف، حيث يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} [السجدة: 26] فلم تدخل اللام على المهْدى إليه، إنما دخلتْ على المهدى، فلم يقُلْ الحق سبحانه: أو لم يَهْد الله هؤلاء القوم لكذا، فلماذا؟
قالوا: لأن بعض الناس يظنون أن الله حين يهدي إلى الطريق يُحمّلك مشقات التكاليف؛ لذلك نرى بعض الناس ينفرون من التكاليف ويروْنَ فيها عبئًا عليهم، ومن هنا عبد بعضهم الأصنام، وعبد بعضهم الشمس أو القمر. الخ؛ لأنها آلهة بدون منهج وبدون تكاليف، ليس لها أوامر، وليس عندها نَواهٍ، وما أيسر أنْ يعبد الإنسان مثل هذه الآلهة التي لا مطلوبات لها.
والذي يرى في التكاليف مشقة، ويراها عبئًا عليه يراها كذلك؛ لأنها تصادم مراد نفسه في الشهوات وتحدُّ من رغباته، ومرادات النفس ربما أعطتْك لذة عاجلة، لكن يعقبها حسرة وشر آجل.
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يتحمل مشقة المذاكرة والدرس طمعًا في التفوق الذي ينتظر حلاوته، وآخر يفضل اللذة السريعة العاجلة فيلعب ولا يهتم، فيلاقي مذلَّة الفشل والاحتقار آخر العام.
إذن: عليك أنْ تقرن بين مشقة العمل والنتيجة والثمرة التي تنالها من ورائه، وعندها تهون عليك مشقة التكاليف؛ لأن ما ينتظرك من الأجر عليها أعظم مما قدَّمتَ وأبقى.
فالحق سبحانه يريد منا أنْ نُقبل على التكاليف، ونعرف أنها لمصلحتنا نحن، وأنها في الحقيقة تشريف لنا لا تكليف؛ لأن الذي كلفني لا يحتاج مني إلى هذا، ولا ينتفع من عبادتي بشيء، بل هو سبحانه يتحنن إليَّ؛ لأكون أهلا لإنعامه وجديرًا بفضله وكرمه.
ألم يقُلْ سبحانه: {لَئن شَكَرْتُمْ لأَزيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فالمسألة إذن منك وإليك، فالله سبحانه له صفات الكمال قبل أنْ يخلق عباده.
فاللام في {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} [السجدة: 26] أي: لصالحهم ومن أجلهم، وليس عليهم، فالهدى لصالح المهدي لا الهادي، ولو فهم الإنسان هذه الحقيقة وعرف أن الهداية راجعة إليه لَقبَّل يد مَنْ بلَغه عن الله هذا الفضل.
ويؤكد هذا المعنى- لمن فطن- قوله تعالى عن المؤمنين: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهمْ} [لقمان: 5] فالهدى ليس حمْلًا يحملونه، إنما مطية يركبونها إلى الغاية النبيلة التي أرادها الله لهم.
فما الذي بيَّنه الله للمؤمنين ودلَّهم عليه؟
يقول سبحانه: {كَمْ أَهْلَكْنَا من قَبْلهمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ} [السجدة: 26] أي: انظروا إلى المخالفين للرسل من قبلكم، وكيف أخذهم الله فلم يُمكّنهم من رسله، بل انتصر الرسل عليهم.
وكم هنا تفيد الاستفهام عن العدد، وهي بمعنى كثير، كما تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك أي: مرات كثيرة لا تُعَدُّ، والمراد أننا بيَّنا لكم كثيرًا من الأمم التي عادتْ رسلها، وكيف كانت عاقبتهم وغايتهم التي انتهوا إليها. {فَكُلًا أَخَذْنَا بذَنبه فَمنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْه حَاصبًا وَمنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا به الأرض وَمنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله ليَظْلمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ} [العنكبوت: 40].
ومن مصلحتنا أن يُبيّن الله لنا عاقبة المكذبين؛ لأنه ينبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه. وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن قوله تعالى- من سورة الرحمن: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصرَان فَبأَيّ آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَان} [الرحمن: 35-36] فاعتبر الشواظ والنار من النّعم التي ينبغي ألاَّ نُكذّب بها، لماذا؟ لأنه نبَّهنا إليها حتى لا نقع فيها.
وقوله تعالى: {مّنَ القرون} [السجدة: 26] القرن حدده العلماء بمائة عام، لكن هذه المائة تتداخل، ويقترن فيها عدة أجيال يجتمعون على مذهب أو مبدأ واحد، فالقرن يقرن بين الجد والابن والحفيد، هذا إنْ أردتَ الزمن وحده، فإنْ قُرن الزمن بعصر دين من الأديان أو نبي أو ملك، فقد يطول القرن إلى الألف عام، كما في قرن نوح عليه السلام.
فالقرن مرتبط بما قُرن به؛ لذلك نقول: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، عصر بني أمية، العصر العباسي، عصر المماليك، وما نزال حتى الآن نقول عن عصرنا: العصر الحديث.
والحق سبحانه يبين لنا في الحياة التي نعيشها أن الزمن متغير، إلى أعلى في الماديات، وإلى أدنى في المعنويات، فكلما تقدَّم الزمن انحلَّ الناس من ربْقة الدين وتفلَّتوا منه؛ ذلك لأن الارتقاءات المادية ينتج عنها حضارات تستهوي النفوس وتغريها، والنتيجة انحدار في القيم وفي الدين، ولو أن الارتقاء كان متساويًا لسار الأمران في خطين متوازيين.
لذلك يقول تعالى: {حتى إذَآ أَخَذَت الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24].
ثم إنك لو نظرتَ إلى جزئيات الحضارة في الكون تجد أن الأمم صاحبة الحضارات لم تستطع أنْ تجعل لنفسها وقاية من اندحار حضارتهم، ولم يستطيعوا صيانتها. حتى العصور التقدمية: كنا في العصر الحجري، ثم عصر البخار، ونحن الآن في عصر الفضاء.
إذن: نحن مرتقون فقط في الماديات، لكن منحدرون في المعنويات، لكن هل هذا الارتقاء المادي جاء عن امتلاك لمعالم هدى الله في الأرض؟ لا، لأن الله تعالى بيّن لنا: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإنَّا لَهُ لَحَافظُونَ} [الحجر: 9].
فأنا الذي أنزلتُ، وأنا الذي ضمنتُ حفظه، فلم أتركه لكم تحفظوه، إذن: المسألة عن عجز منا، وإلا فكتاب البداية موجود حجة علينا.
وقوله تعالى: {يَمْشُونَ في مَسَاكنهمْ} [السجدة: 26] أي: أنني لا ألقى القضايا بدون حجة أو دليل، بل هي شاخصة أمامكم تمرون بها، وتروْنَها ليل نهار، كما قال سبحانه: {وَإنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهمْ مُّصْبحينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقلُونَ} [الصافات: 137-138].
ثم يقول سبحانه: {إنَّ في ذَلكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] فالله يحضُّهم على أنْ يستمعوا إلى سيَر المكذّبين المعاندين، وما حاق بهم من انتقام الله منهم.
وبالله: الإنسان مهما قَصُر عمره، ألم يَرَ ظالمًا، وألم يَرَ مصرع هذا الظالم وعاقبة ظلمه، فإنْ لم يَرَ ظالمًا ألم يُحدَّث عنه؟ إذن: مما يصلح حال الناس أنْ يستمعوا إلى حكايات عن الظالمين وعن نهايتهم، وما ينزل بهم من الانتقام الذي لا ينتظر الآخرة، بل يُعَجّل لهم في الدنيا.
وفي ذلك حكمة لله بالغة؛ لأن الظالم ربما لا يرعوى ولا يرجع في الدنيا عن ظلمه، فيظل يُعربد في الخَلْق ما أحياه الله، لكن إنْ مسَّه شيء من العذاب، فلربما عاد إلى رُشْده، وإن لم يَعُدْ كان عبرة لغيره.
لذلك قال أهل المعرفة: لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه. وربما مَنْ رآه ظالمًا يراه مظلومًا، ومَنْ أراد أن يرى نهاية ظالم فلينظر إلى مصارع الظالمين قبله.
وتأمل قول ربك: {وكذلك نُوَلّي بَعْضَ الظالمين بَعْضًا} [الأنعام: 129] فكأن الظالم له رسالة، هي أن ينتقم من ظالم مثله، وهكذا يُهلك الله هؤلاء بعضهم ببعض؛ لأن الخيّر طيّب القلب لا يؤدب ظالمًا، فإن اعتديتَ عليه غلب عليه طابع التسامح والعفو.
ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفار مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فكأن الله عز وجل يقول للخيّر: اجلس أنت واسترح، واترك الأشرار لي، فسوف أرسل عليهم من هو أشرّ منهم ليؤدبهم.
واختار الحق هنا حاسة السمع {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] لأنها وسيلة الإدراك المناسبة للموقف، فبها نسمع ما يُحكَى عن الظالمين وبها نعتبر، وفي موضع آخر سيقول: {أَفَلاَ يُبْصرُونَ} [السجدة: 27] ويقول: {أَفَلاَ يَعْقلُونَ} [يس: 68] فيُنوّع لنا، ويُقلّب كل وسائل الإدراك لينبهنا من خلالها.
والمعنى {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] ما يُرْوَى لهم عن مصارع الظالمين، لقد نبهناهم وذكَّرناهم، ومع ذلك أشركوا وجعلوا سمعهم ودن من طين، وودن من عجين.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْض الْجُرُز فَنُخْرجُ به زَرْعًا تَأْكُلُ منْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصرُونَ (27)}.
أولًا لك أن تلحظ هنا توافق النسق القرآني بين صدر الآيات وعَجُزها، ففي الآية السابقة قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْد لَهُمْ} [السجدة: 26] أي: يدلُّ ويرشد، والكلام فيها عن قصص تاريخي، فناسبها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] أما هنا فالكلام عن مشاهد مرئية، فناسبها {أَفَلاَ يُبْصرُونَ} [السجدة: 27] فهذا ينبغي أنْ يُسمع، وهذا ينبغي أنْ يُرى.
وفي الآية السابقة قال سبحانه: {أَهْلَكْنَا} [السجدة: 26] لنعتبر بإهلاك المكذبين في الماضي، أما هنا فيلفتنا إلى آية من آياته في الكون، فيأتي الفعل {نَسُوقُ الماء} [السجدة: 27] بصيغة المضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب، فينزل منها المطر على الأرض {الجرز} أي: المجدبة، فتصبح مُخضرة بأنواع الزروع والثمار، وهذه آية مستمرة نراها جميعًا، ولا تزال في الحال وفي الاستقبال، ولأن هذه الآية واقعة الآن تحتاج منا المشاهدة والتأمل قال في ختامها {أَفَلاَ يُبْصرُونَ} [السجدة: 27].
وفي موضع آخر قال سبحانه: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينَةً لَّهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا وَإنَّا لَجَاعلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7-8] فالجُرُز هي الأرض المقطوع منها النبات، إما لأن الماء شحَّ عليه فجفَّ، وإما أنه استُحصد فحصدوه.
ومعنى {نَسُوقُ الماء} [السجدة: 27] السَّوْق: حَثٌّ بسرعة؛ لذلك تقول للذي يتعجلك ما لك سايقنا كده، ومعلوم أن السَّوْق يكون من الوراء، على خلاف القيادة، فهي من الأمام، فالذي تسوقه تسوقه وهو أمامك، تراه فلا يتفلت منك، ولو كان خلفك فهو عُرْضة لأنْ يهرب منك، فلا تشعر به.
والسَّوْق مرة يكون للسحاب، كما في قول الله تعالى: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} [فاطر: 9].
ومرة يكون السَّوْق للماء نفسه كما في هذه الآية، وسَوْق الماء له عدة مظاهر: فالله يسوق الماء من السحاب إلى الأرض، فإذا نزل إلى الأرض ساقه في الأنهار، أو سلكه ينابيع في الأرض ليحتفظ لنا به لحين الحاجة إليه.
فربُّنا- عز وجل- جعل لنا خزانات للماء تحت الأرض، لا لنحرم منه حين يوجد، لكن لنجده حين يُفقد، وكون الماء ينابيع في الأرض يجعلنا نتغلب على مشاكل كثيرة، فالأرض تحفظه لنا، فلا يتبخر ولا نحتاج إلى بناء السدود وغيرها، مما يحفظ لنا الماء العَذْب.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقيًا- أرض خصبة- قبلتْ الماء، فأنبتت الكلأ والعُشْب، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فشرب الناس منه وسَقُوا أنعامهم وزروعهم، وكان منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم».
فهذه أنواع ثلاثة من الأرض تمثل انتفاع الناس بالعلم، فالأولى تسمك الماء، وتُخرج الزرع، والثانية تمسك الماء حتى ينتفع الناس به، ولك أن تسأل: فما فائدة الثالثة: القيعان التي لا تُمسك ماء، ولا تنبت كلأ؟ ولماذا خلقها الله إذن؟
نقول: هذه القيعان هي التي تسلك الماء في باطن الأرض، وصدق الله: {فَأَنزَلْنَا منَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخَازنينَ} [الحجر: 22] وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتيكُمْ بمَاءٍ مَّعينٍ} [الملك: 30].
إذن: هذه القيعان لها مهمة يعرفها مَنْ فَطن لهذه المسألة، وإلا فالله تعالى لم يخلق شيئًا عبثًا أبدًا، كذلك يكون انتفاع الناس بالعلم، فمنهم مَنْ نرى أثر علمه خيرًا عاجلًا، ومنهم مَنْ يتأخر نَفْع علمه للأجيال القادمة.
ثم إياك أنْ تظن أنَّ الماء حين يسلكه اللهُ ينابيع في باطن الأرض يسيح فيها، أو يحدث له استطراق سائلي يختلط فيه العذب بالمالح، لا. إنما يسير الماء العَذْب في شبه أنابيب ومسارب خاصة، يجدونها حتى تحت مياه الخليج المالحة.
وهذه من عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق عز وجل، وكما يوجد برزخ بين المائيْن على وجه الأرض {مَرَجَ البحرين يَلْتَقيَان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغيَان} [الرحمن: 19-20] كذلك هناك برزخ للماءين تحت الأرض.
فالحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى هذه الآية المشاهدة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الماء إلَى الأرض الجرز} [السجدة: 27] نعم، هذه آية نشاهدها جميعًا، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عز وجل.
وقوله سبحانه: {أَنَّا نَسُوقُ} [السجدة: 27] فيه دليل على قيُّوميته تعالى على الخلق، فإنْ كان سَوْق الماء يتم بواسطة الملائكة المكلفين به، إلا إنه تعالى صاحب الأمر الأول والمتتبع لعملية تنفيذه.